الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ} أي أَنَمناهم على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه الإنامةِ الثقيلةِ المانعةِ عن وصول الأصواتِ إلى الآذان بضرب الحجابِ عليها، وتخصيصُ الآذان بالذكر مع اشتراك سائرِ المشاعرِ لها في الحجْب عن الشعور عند النومِ لما أنها المحتاجُ إلى الحجب عادة، إذ هي الطريقةُ للتيقظ غالبًا لاسيما عند انفرادِ النائم واعتزالِه عن الخلق، وقيل: الضربُ على الآذان كنايةٌ عن الإنامة الثقيلةِ، وحملُه على تعطيلها كما في قولهم: ضرب الأميرُ على يد الرعيةِ أي منعهم من التصرف مع عدم ملاءمتِه لما سيأتي من البعث لا يدل على النوع مع أنه المرادُ قطعًا، والفاء في فضربنا كما في قوله عز وجل: {فاستجبنا لَهُ} بعد قوله تعالى: {إِذْ نادى} فإن الضربَ المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال والبعثِ وغيرِ ذلك إيتاءُ رحمةً لدنيّةٍ خافيةٍ عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابةً لدعوتهم {فِى الكهف} ظرف مكان لضربنا {سِنِينَ} ظرفُ زمان له باعتبار بقائِه لا ابتدائِه {عَدَدًا} أي ذواتَ عدد أو تُعدّ عددًا على أنه مصدرٌ أو معدودةً على أنه بمعنى المفعول، ووصفُ السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسبُ بإظهار كمالِ القدرةِ أو للتقليل وهو الأليقُ بمقام إنكارِ كون القصةِ عجبًا من بين سائر الآياتِ العجيبة فإن مدة لُبثهم كبعض يومٍ عنده عز وجل.{ثُمَّ بعثناهم} أي أيقظناهم من تلك النومةِ الثقيلة الشبيهة بالموت {لَنَعْلَمُ} بنون العظمة، وقرئ بالياء مبنيًا للفاعل بطريق الالتفاتِ، وأيًّا ما كان فهو غايةٌ للبعث لكن لا بجعل العلمِ مجازًا من الإظهار والتمييز، أو بحمله على ما يصِح وقوعُه غايةً للبعث الحادثِ من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاءُ كما في قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} ونظائِرهما التي يتحقق فيها العلمُ بتحقق متعلقِه قطعًا، فإن تحويلَ القِبلة قد ترتب عليه تحزّبُ الناس إلى متّبعٍ ومنقلب، وكذا مداولةُ الأيامِ بين الناس ترتب عليه تحزّبُهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزلِ فيه وتعلق بكل من الفريقين العلمُ الحالي والإظهارُ والتمييزُ، وأما بعثُ هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقُهم إلى المَحْصيِّ وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهارُ والتمييزُ ويتسنى نظمُ شيء من ذلك في سلك الغاية، وإنما الذي ترتب عليه تفرقُهم إلى مقدِّر تقديرًا غيرَ مصيب ومفوِّض إلى العلم الرباني وليس شيءٌ منهما من الإحصاء في شيء بل بحمل النظمِ الكريم على التمثيل المبنيِّ على جعل العلمِ عبارةً عن الاختبار مجازًا بطريق إطلاقِ اسمِ المسبَّب على السبب، وليس من ضرورة الاختبارِ صدورُ الفعل المختبَرِ به عن المختبَرِ قطعًا، بل قد يكون لإظهار عجزِه عنه على سنن التكاليفِ التعجيزيةِ كقوله تعالى: {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} وهو المرادُ هاهنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملةَ من يختبرهم.{أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أي الفريقين المختلفَين في مدة لُبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي {أحصى} أي أضبط {لِمَا لَبِثُواْ} أي للبثهم {أَمَدًا} أي غايةً فيظهر لهم عجزُهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالَهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانِهم وأديانِهم فيزدادوا يقينًا بكمال قدرتِه وعلمِه ويستبصروا به أمرَ البعث ويكون ذلك لطفًا لمؤمني زمانِهم وآيةً بينة لكفارهم، وقد اقتُصر هاهنا من تلك الغايات الجليلةِ على ذكر مبدئِها الصادرِ عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدّي إليها، وهذا أولى من تصوير التمثيلِ بأن يقال: بعثناهم بعْثَ من يريد أن يعلم إلخ حسبما وقع في تفسير قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} على أحد الوجوهِ حيث حُمل على معنى فعلنا ذلك فِعْلَ مَن يريد أن يعلم مَن الثابتُ على الإيمان من غير الثابت، إذ ربما يتوهم منه استلزامُ الإرادةِ لتحقق المراد، فيعود المحذورُ فيصار إلى جعل إرادةِ العلم عبارةً عن الاختبار فاختبر واختر.هذا وقد قرئ: {ليُعْلِمَ} مبنيًا للمفعول ومبنيًا للفاعل من الإعلام على أن المفعولَ الأولَ محذوفٌ والجملة المصدرةُ بأي في موقع المفعولِ الثاني فقط إن جعل العلمُ عِرفانيًا، وفي موقع المفعولين إن جعل يقينيًا أي ليُعلِمَ الله الناسَ أيَّ الحزبين أحصى الخ، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدَ الحزبين الفتيةُ والآخرَ الملوكُ الذين تداولوا المدينةَ مُلكًا بعد ملك، وقيل: كلاهما من غيرهم والأولُ هو الأظهر، فإن اللامَ للعهد ولا عهدَ لغيرهم والأمدُ بمعنى المدى كالغاية في قولهم: ابتداءُ الغاية وانتهاءُ الغاية وهو مفعولٌ لأحصي، والجارُّ والمجرور حالٌ منه قدمت عليه لكونه نكرةً.وليس معنى إحصاءِ تلك المدةِ ضبطَها من حيث كميتُها المتصلةُ الذاتيةُ فإنه لا يسمى إحصاءً بل ضبطَها من حيث كميتُها المنفصلةُ العارضةُ لها باعتبار قسمتِها إلى السنينَ وبلوغها من تلك الحيثيةِ إلى مراتبِ الأعداد على ما يرشدك إليه كونُ تلك المدة عبارةً عما سبق من السنين.ويجوز أن يراد بالأمد معناه الوضعيُّ بتقدير المضافِ أي لزمان لُبثِهم وبدونه أيضًا فإن الُلبثَ عبارةٌ عن الكون المستمرِّ المنطبق على الزمان المذكورِ فباعتبار الامتدادِ العارضِ له بسببه يكون له أمدٌ لا محالة، لكن ليس المرادُ به ما يقع عليهم غايةً ومنتهًى لذلك الكونِ المستمرِّ باعتبار كميتِه المتصلةِ العارضةِ له بسبب انطباقِه على الزمان الممتدِّ بالذات وهو آنُ انبعاثِهم من نومهم فإن معرفتَه من تلك الحيثيةِ لا تخفى على أحد ولا تسمّى إحصاءً كما مر، بل باعتبار كميّتِه المنفصلةِ معارضةً له بسبب عروضِها لزمانه المنطبقِ هو عليه باعتبار انقسامِه إلى السنين ووصولِه إلى مرتبة معينةٍ من مراتب العددِ كما حقق في الصورة الأولى، والفرقُ بين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاءُ في الصورة السابقةِ نفسُ المدة المنقسمةِ إلى السنين فهو مجموعُ ثلاثِمائةٍ وتسعِ سنين، وفي الصورة الأخيرةِ منتهى تلك المدةِ المنقسمةِ إليها أعني السنةَ التاسعةَ بعد الثلاثِمائةِ، وتعلقُ الإحصاءِ بالأمد بالمعنى الأول ظاهرٌ، وأما تعلقُه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامِه لما تحته من مراتب العددِ واشتمالِه عليها. هذا تقديرُ كون ما في قوله تعالى: {لِمَا لَبِثُواْ} مصدريةً ويجوز أن تكون موصولةً حُذف عائدُها من الصلة أي للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبّر عنه فيما قبل بسنينَ عددًا، فالأمدُ بمعناه الوضعيِّ على ما تحققْتَه، وقيل: اللامُ مزيدةٌ والموصولُ مفعولٌ وأمدًا نصبٌ على التمييز، وأما ما قيل من أنّ أحصى اسمُ تفضيل لأنه الموافقُ لما وقع في سائر الآيات الكريمةِ نحوُ: {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونَه فعلًا ماضيًا يُشعر بأن غايةَ البعث هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ على البعث لا بالإحصاء المتأخرِ عنه وليس كذلك، وادعاءُ أن مجيءَ أفعلِ التفضيلِ من المزيد عليه غيرُ قياسي مدفوعٌ بأنه عند سيبويهِ قياسٌ مطلقًا، وعند ابن عصفورٍ فيما ليست همزتُه للنقل ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبيلِ، وامتناعُ عمله إنما هو في غير التمييز من المعمولات، وأما أن التمييزَ يجب كونُه فاعلًا في المعنى فلمانعٍ أن يمنعَه بصحة أن يقال: أيُّهم أحفظُ لهذا الشعر وزنًا أو تقطيعًا، أو يقالَ: إن العاملَ في أمدًا فعلٌ محذوفٌ يدل عليه المذكورُ أي يُحصي لما لبثوا أمدًا كما في قوله:
وحديثُ الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوعٌ بما أشير إليه من فائدة الموافقةِ للنظائر، فمع ما فيه من الاعتسافِ والخللِ بمعزل من السَّداد لأن مؤداه أن يكون المقصودُ بالاختبار إظهارَ أفضلِ الحزبين وتمييزَه عن الأدنى مع تحقق أصلِ الإحصاء فيهما، ومن البيّن أن لا تحقُّقَ له أصلًا وأن المقصودَ بالاختبار إظهارُ عجزِ الكلِّ عنه رأسًا فهو فعل ماضٍ قطعًا، وتوهُم إيذانِه بأن غايةَ البعثِ هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ عليه مردودٌ بأن صيغةَ الماضي باعتبار حالِ الحكايةِ والله تعالى أعلم. اهـ.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف، وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي.وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من ذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل من دين قبل عيسى عليه السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه، وأخرجاهما وجماعة من طريق آخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أدري ما الرقيم وسألت كعبًا فقال: اسم القرية التي خرجوا منها، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة، وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما.فقد أخرج البخاري. ومسلم. والنسائي. وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أنني اشتريت منه بقرًا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت أعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز فقلت: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إليّ وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا» وروي نحو ذلك عن ابن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل، وقيل بمعنى الصخرة، وقيل بمعنى الجبل، ويكون ذكر ذلك تلميحًا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرًا أو شرًا فهو غير مقصود بالذات، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل.
|